

المؤسس والرئيس التنفيذي للمركز الأوروبي لدراسات الشرق الأوسط
المقدمة:
يُعد مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي في الفكر الماركسي نموذجًا اقتصاديًا واجتماعيًا ارتبط بآليات تحصيل الفائض من المنتجين الزراعيين عبر سلطة مركزية قوية، بما يعكس بنية مجتمعات ما قبل الرأسمالية. وعلى الرغم من انتماء هذا النموذج إلى سياق تاريخي محدد، إلا أن بعض سماته الهيكلية تبرز مجددًا في سياقات معاصرة، لا سيما في إطار الاقتصاد الريعي الذي يقوم على استخراج العائدات من الموارد الطبيعية بدلًا من الإنتاج المباشر. ويتميز الاقتصاد الريعي بتركيزه على تحصيل الريع الناتج عن امتلاك موارد محدودة، مثل النفط والمعادن، مما يعيد تشكيل العلاقات الاقتصادية والسياسية على المستوىين المحلي والدولي.
من هذا المنطلق، يبرز تساؤل محوري يحاول هذا البحث الإجابة عنه: هل يمكن اعتبار الاقتصاد الريعي تجليًا حديثًا لنمط الإنتاج الآسيوي ضمن سياق رأسمالي عالمي؟ وللإجابة على هذا التساؤل، يسعى البحث إلى تحليل أوجه التشابه والاختلاف بين النموذجين، مع التركيز على كيفية إعادة إنتاج أنماط الاستبداد الاقتصادي والسياسي في ظل العولمة وتوسع النظام الرأسمالي. كما يتناول البحث انعكاسات هذه البنية الاقتصادية على التنمية الاجتماعية والسياسية، مستعينًا بمنهجية الاقتصاد السياسي وعلم الاجتماع الاقتصادي لفهم تداخل العوامل الاقتصادية والتاريخية في تشكيل الظواهر الريعية المعاصرة.
وفي هذا الإطار، ستُستعرض المراحل التاريخية لتطور نمط الإنتاج الآسيوي وأبرز سماته، متبوعة بتحليل خصائص الاقتصاد الريعي الحديث، مع إظهار التداخل بين العوامل الاقتصادية والسياسية في كلا النموذجين. وسيُختتم البحث بتقييم مدى انطباق مفهوم النمط الآسيوي على الاقتصادات الريعية اليوم، مع إبراز تداعيات ذلك على مفاهيم السيادة الاقتصادية والتنمية المستدامة في عصر العولمة الرأسمالية.
النمط الآسيوي للإنتاج: تعريفه وخصائصه
يُشير مفهوم نمط الإنتاج الآسيوي (Asiatic Mode of Production) إلى نظام اقتصادي واجتماعي يتميز باستخلاص الفائض الاقتصادي من الفلاحين بواسطة سلطة مركزية قوية، مع غياب الملكية الخاصة للأرض. ظهر هذا النمط في العديد من المجتمعات الزراعية الآسيوية، مثل الصين والهند ومصر القديمة وبلاد الرافدين، حيث اضطلعت الدولة بدور رئيسي في تنظيم الموارد والتحكم في أنظمة الري والزراعة.
ناقش كارل ماركس هذا المفهوم في كتاباته، مشيرًا إلى أن احتكار الدولة للموارد وغياب الملكية الخاصة للأرض أدّيا إلى ترسيخ أنظمة استبدادية أعاقت تطور قوى الإنتاج ومنعت نشوء علاقات إنتاج قائمة على السوق الحر 1. وقد اعتبر ماركس أن هذا النمط يختلف عن غيره من أنماط الإنتاج، حيث لم يكن للطبقات المالكة دور رئيسي، بل كانت الدولة هي الجهة المسيطرة، ما جعل الانتقال إلى الرأسمالية أكثر تعقيدًا مقارنة بأوروبا2.
المادية التاريخية وتطور أنماط الإنتاج
وفقًا للفهم المادي للتاريخ، تعتمد المادية التاريخية (Historical Materialism) على فكرة أن تطور المجتمعات البشرية يرتبط بشكل وثيق بتغير أنماط الإنتاج وعلاقات الملكية. ويُنظر إلى البناء الاقتصادي لأي مجتمع على أنه الأساس المادي الذي تقوم عليه بنيته الفوقية، بما يشمل أنظمته السياسية والثقافية والإيديولوجية 3 .
ويحدث التغيير الاجتماعي عندما تتعارض قوى الإنتاج (مثل التكنولوجيا والعمل) مع علاقات الإنتاج (مثل الملكية الطبقية)، مما يؤدي إلى ثورات اجتماعية تُحدث تحولًا في النمط الاقتصادي القائم 4.
أنماط الإنتاج في المادية التاريخية
النمط المشاعي البدائي (Primitive Communal Mode)
يُعد أول شكل من أشكال الإنتاج، حيث كانت الملكية مشاعية، وكان الإنتاج موجهًا لتلبية الاحتياجات الأساسية. لم تكن هناك طبقات اجتماعية، إذ كان الأفراد يتعاونون في الصيد والزراعة دون وجود سلطة مركزية. مثال: مجتمعات الصيد والجمع في العصر الحجري.5
النمط العبودي (Slave Mode)
ظهر مع تطور الزراعة، حيث أصبح الإنتاج يعتمد على استغلال العمل القسري للعبيد. امتلكت طبقة قليلة وسائل الإنتاج، بينما عمل العبيد دون حقوق، ما أدى إلى ظهور طبقات اجتماعية واضحة. مثال: الإمبراطورية الرومانية ومصر الفرعونية 6.
النمط الإقطاعي (Feudal Mode)
تميز بملكية الإقطاعيين للأرض، واستغلال عمل الفلاحين (الأقنان)، الذين كانوا مرتبطين بالأرض ولا يمتلكون حرية التنقل. اعتمد الاقتصاد على الإنتاج الزراعي المحلي، مع وجود تبعية شخصية بين الفلاح والإقطاعي. مثال: أوروبا في العصور الوسطى 7.
النمط الرأسمالي (Capitalist Mode)
يقوم على ملكية الطبقة البرجوازية لوسائل الإنتاج، واستغلال قوة عمل البروليتاريا (الطبقة العاملة) لتحقيق الربح. يتميز هذا النمط بـ تراكم رأس المال، والإنتاج السلعي، والتوسع في الأسواق. رغم الديناميكية الاقتصادية، فإنه يتسم أيضًا بالاستغلال الطبقي وعدم المساواة. مثال: الثورة الصناعية في أوروبا 8.
النمط الاشتراكي (Socialist Mode)
يعتمد على الملكية العامة لوسائل الإنتاج، ويُعتبر مرحلة انتقالية بين الرأسمالية والشيوعية. يهدف إلى القضاء على الاستغلال الطبقي وتحقيق العدالة الاجتماعية، حيث تسيطر البروليتاريا على الدولة ووسائل الإنتاج، مما يحدّ من سلطة البرجوازية ويؤدي إلى توزيع أكثر عدالة للثروة. تمهيدًا للوصول إلى الشيوعية، حيث يتحقق مجتمع بلا طبقات ولا استغلال 9.
أن التاريخ ليس مجرد تسلسل أحداث عشوائي، بل هو عملية ديالكتيكية تتطور وفقًا للتغيرات في أنماط الإنتاج وعلاقات الملكية. ومن خلال هذا المنظور، يُعد نمط الإنتاج الآسيوي ظاهرة تاريخية تعكس طبيعة الأنظمة المركزية القديمة، بينما تشكّل الرأسمالية والاشتراكية مراحل متقدمة في التطور الاقتصادي والاجتماعي. وعلى الرغم من النقد الذي وُجّه إلى أطروحات ماركس بهذا الشأن، فإنها تظل مرجعًا أساسيًا لا يمكن تجاوزه لفهم التطور التاريخي للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية.
موقع النمط الآسيوي في تطور الأنماط
لم يُدرج كارل ماركس النمط الآسيوي ضمن الأنماط الإنتاجية الخمسة (المشاعي البدائي، العبودي، الإقطاعي، الرأسمالي، والشيوعي)، لكنه اعتبره نموذجًا مهمًا لفهم العلاقة بين السلطة المركزية والتنمية الاقتصادية في المجتمعات الزراعية التقليدية 10. وقد ناقش ماركس هذا النمط في كتاباته عن الهند والصين، مشيرًا إلى أن غياب الملكية الفردية للأرض وتأثير الدولة المركزي أعاقا التطور الاقتصادي المستقل، مما جعل هذه المجتمعات أقل ديناميكية مقارنةً بأوروبا الغربية11 .
في المقابل، اعتبر المفكرون الماركسيون اللاحقون، مثل ماوريس غودلييه وإريك هوبسباوم، أن النمط الآسيوي يمثل نموذجًا موازياً وليس مجرد شكل متخلف من التطور، حيث مكّن بعض الدول من تحقيق استقرار سياسي ممتد، رغم الجمود الاقتصادي12 13
يُعد النمط الآسيوي ظاهرة اقتصادية وسياسية متمايزة عن الأنماط الأخرى، حيث مكّن الدول من فرض استقرار سياسي طويل الأمد بفضل احتكار السلطة للإنتاج، لكنه في المقابل حدّ من نمو الأسواق والتطور الاقتصادي. ورغم الجدل حول موقعه في نظرية ماركس، إلا أنه يبقى نموذجًا ضروريًا لفهم العلاقة بين الدولة والتنمية الاقتصادية، خاصة في المجتمعات الزراعية التقليدية.
وتتلخص أبرز خصائص هذا النمط فيما يلي:
غياب الملكية الخاصة للأرض:
لم تكن الأرض مملوكة للأفراد، بل كانت تعتبر ملكًا جماعيًا للمجتمع أو العشيرة، فيما احتكرت الدولة حق تحصيل الفائض الزراعي من الفلاحين. وقد أدى هذا الوضع إلى الحدّ من الحوافز الفردية للاستثمار في تطوير وسائل الإنتاج، حيث اقتصر دور الفلاحين على تلبية احتياجاتهم الأساسية ودفع الضرائب العينية أو النقدية للدولة14.سيطرة السلطة المركزية:
تميّز النمط الآسيوي للإنتاج بوجود سلطة مركزية قوية تسيطر على الأرض وتحتكر الفائض الاقتصادي الناتج عن العمل الزراعي، وهو ما جعلها تلعب دور الوسيط الرئيس بين المنتجين (الفلاحين) وبين آليات إعادة توزيع الموارد. ولم تقتصر هذه السلطة على فرض الضرائب فحسب، بل امتدت إلى تنظيم عمليات الإنتاج نفسها، خاصة فيما يتعلق بإدارة أنظمة الري والمشاريع الكبرى التي تتطلب تعاونًا جماعيًا واسع النطاق. وقد مكّنها هذا الدور من تعزيز سلطتها السياسية والاجتماعية، حيث أصبحت قادرة على توجيه الفائض الاقتصادي لخدمة مصالحها الخاصة، سواء من خلال تمويل الجيش أو دعم الطبقة البيروقراطية التي تدير شؤون الدولة 15
ورغم أن هذه السلطة ساهمت في الحفاظ على الاستقرار الاجتماعي وضمان استمرارية الإنتاج الزراعي، إلا أنها في الوقت ذاته حالت دون نشوء طبقة برجوازية مستقلة، وهو ما اعتبره ماركس أحد الأسباب الرئيسة لركود المجتمعات الآسيوية. فقد أدى احتكار الدولة للفائض إلى حرمان الأفراد من فرصة إعادة استثماره في تطوير وسائل الإنتاج، مما منع ظهور علاقات إنتاج جديدة قائمة على المبادرة الفردية والسوق الحر. ونتيجة لذلك، بقيت هذه المجتمعات عالقة في مرحلة ما قبل الرأسمالية، دون أن تتمكن من الانتقال إلى مرحلة الإنتاج الصناعي الذي يقوم على تراكم رأس المال والمنافسة في الأسواق16
اقتصاد مغلق قائم على الاكتفاء الذاتي:
بحكم اعتماد هذا النمط على الإنتاج الزراعي المعاشي، اقتصرت الأنشطة الاقتصادية على تلبية الاحتياجات الأساسية للسكان، دون وجود حوافز لتحقيق فائض يُمكن استخدامه في التبادل التجاري أو الاستثمار في تطوير وسائل الإنتاج. وقد أدى هذا الوضع إلى بقاء الاقتصاد في حالة اكتفاء ذاتي، معزولًا عن الأسواق الإقليمية والدولية، مما حال دون نشوء شبكات تجارية واسعة النطاق تُحفّز النمو الاقتصادي. كما أن غياب المنافسة وانعدام الفرص لتحقيق أرباح تجارية أسهم في إضعاف ديناميات السوق، حيث لم يكن هناك دافع لتوسيع الإنتاج أو تحسين جودته، نظرًا لعدم وجود طلب خارج نطاق المجتمع المحلي
وبالإضافة إلى ذلك، فإن هيمنة الدولة على عملية تحصيل الفائض حدّت من قدرة الأفراد على تكوين رأس مال خاص يمكن توظيفه في تطوير أنشطة إنتاجية جديدة. ونتيجة لذلك، بقيت هذه المجتمعات في حالة ركود اقتصادي حال دون تطور قوى الإنتاج، ما أدى إلى استمرارها ضمن بنية اقتصادية جامدة تعتمد على العمل الزراعي التقليدي دون أن تتمكن من تجاوز عتبة الإنتاج المعاشي نحو الإنتاج السلعي الموجه للسوق 17
دور الإيديولوجيا في تعزيز الاستقرار:
لم تقتصر سلطة الدولة على الجوانب الاقتصادية والسياسية فحسب، بل امتدت أيضًا إلى المجال الإيديولوجي، حيث لعبت الأديان والمعتقدات التقليدية دورًا في ترسيخ شرعية الحكم المركزي. فقد اعتُبر الحاكم في العديد من المجتمعات الآسيوية ممثلًا للإرادة الإلهية، ما أسهم في تعزيز الطاعة والخضوع لدى السكان، وبالتالي ضمان استقرار النظام الاجتماعي رغم طبيعته الاستبدادية18:
الاقتصاد الريعي: تعريفه وخصائصه:
يُشير مفهوم الاقتصاد الريعي (Rentier Economy) إلى نموذج اقتصادي يعتمد بشكل رئيسي على العوائد الناتجة عن الموارد الطبيعية أو الامتيازات الاحتكارية، بدلاً من الإنتاج الصناعي أو النشاط الاقتصادي المنتج. في هذا النموذج، تُحقق الدولة أو النخب الاقتصادية إيرادات كبيرة من مصادر مثل النفط، الغاز، الضرائب الاحتكارية، أو حتى المساعدات الخارجية، دون الحاجة إلى تطوير قطاع إنتاجي متنوع19
. هذا النموذج يجعل الدولة تحصل على دخل كبير دون الحاجة إلى تحصيل ضرائب من المواطنين، مما يؤدي إلى تقليص المساءلة السياسية، حيث تصبح الحكومة أقل عرضة للضغط الشعبي والمطالبات بالإصلاح بسبب عدم اعتمادها على الإيرادات الضريبية كمصدر رئيسي للدخل20.
ظهر مفهوم الاقتصاد الريعي في الفكر الاقتصادي منذ زمن آدم سميث وديفيد ريكاردو، اللذين ناقشا الريع الاقتصادي باعتباره دخلاً يحصل عليه المالك دون مشاركة فعلية في الإنتاج. في العصر الحديث، طوّر الباحثان حازم ببلاوي وجياكومو لوتشياني مفهوم "الدولة الريعية" (Rentier State) في الثمانينيات، حيث أشارا إلى أن الدولة التي تعتمد على الموارد الطبيعية أو العائدات الريعية تصبح أقل حاجة لتنمية الاقتصاد المحلي أو تعزيز القطاعات الإنتاجية، مما يؤدي إلى ركود الابتكار وتراجع التنمية الاقتصادية على المدى الطويل21.
يتميّز الاقتصاد الريعي بغياب العلاقة التفاعلية بين الدولة والمجتمع؛ فبما أن الحكومة تحصل على إيراداتها من مصادر خارجية، مثل تصدير النفط، فإنها لا تحتاج إلى فرض ضرائب مباشرة، وبالتالي لا يشعر المواطنون بالحاجة إلى المطالبة بحقوقهم السياسية أو التأثير على القرارات الاقتصادية. وهذا يفسر لماذا تعاني العديد من الدول الريعية من ضعف الديمقراطية وغياب الشفافية، حيث تستخدم الحكومات عائدات الموارد الطبيعية في تمويل شبكات الولاء السياسي أو تقديم إعانات اجتماعية تمنع ظهور احتجاجات شعبية واسعة22.
ومع ذلك، فإن الاعتماد الكبير على الاقتصاد الريعي يحمل مخاطر كبيرة، أهمها التقلبات الاقتصادية بسبب تغير أسعار الموارد الطبيعية في الأسواق العالمية. عندما ترتفع الأسعار، تحقق الدولة فوائض مالية ضخمة، ولكن عند انخفاضها، تواجه عجزًا ماليًا حادًا، مما يؤدي إلى تذبذب التنمية الاقتصادية وعدم استقرار الميزانيات العامة. لذا، تحاول بعض الدول الريعية اليوم تبني سياسات إصلاحية تهدف إلى تنويع مصادر الدخل، وتعزيز دور القطاع الخاص، والاستثمار في التعليم والتكنولوجيا للحد من التبعية للريع وتحقيق استدامة اقتصادية23.
التأثيرات الاقتصادية والسياسية لنمط الإنتاج الريعي
يؤدي الاعتماد على الموارد الطبيعية كمصدر أساسي للإيرادات إلى اقتصاد هش يتأثر بشكل كبير بالتقلبات الدورية في أسعار السلع الأساسية مثل النفط والغاز. فعندما تكون الأسعار مرتفعة، تحقق الدول الريعية فوائض مالية ضخمة تُستخدم غالبًا في الإنفاق الحكومي والاستهلاك، بدلاً من الاستثمار في القطاعات الإنتاجية مثل الصناعة والزراعة. لكن عند انخفاض الأسعار، تواجه هذه الدول أزمات مالية حادة تؤثر على قدرتها على تمويل الخدمات العامة والمشاريع التنموية، مما يفاقم التفاوت الاجتماعي ويزيد من البطالة.
التأثيرات الاقتصادية
تركّز الاقتصادات الريعية على تصدير مورد واحد أو مجموعة محدودة من الموارد، مما يؤدي إلى غياب التنوع الاقتصادي، حيث يتم تهميش القطاعات الإنتاجية الأخرى مثل الزراعة والصناعة التحويلية. يؤدي هذا إلى ما يُعرف بـ "المرض الهولندي"، حيث يؤدي تدفق العائدات الريعية إلى ارتفاع قيمة العملة المحلية، مما يجعل الصادرات الانتاجية أقل قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية24.
وبسبب الإيرادات السهلة القادمة من الريع، تضعف الحوافز أمام الحكومة والمستثمرين لتطوير قطاعات إنتاجية مستدامة. تعتمد الدولة على الإنفاق الحكومي لتحفيز النمو الاقتصادي، مما يجعل النمو قصير الأجل وغير مستدام عند حدوث صدمات في أسعار الموارد الطبيعية.25
تُستخدم الإيرادات الريعية غالبًا في توسيع القطاع العام بدلاً من دعم القطاع الخاص، حيث يتم توظيف نسبة كبيرة من السكان في وظائف حكومية غير منتجة. يؤدي هذا إلى البطالة المقنّعة، حيث يتلقى العديد من الموظفين رواتب دون إنتاجية فعلية، مما يزيد العبء على الميزانية العامة.
عند انخفاض أسعار الموارد، تواجه الدول الريعية صعوبات في تمويل نفقاتها، مما يضطرها إلى خفض الإنفاق العام أو الاقتراض الخارجي، وهو ما قد يؤدي إلى أزمات ديون خطيرة كما حدث في فنزويلا في السنوات الأخيرة
التأثيرات السياسية
في الدول غير الريعية، تعتمد الحكومات على الضرائب كمصدر رئيسي للإيرادات، مما يخلق علاقة مساءلة بين الدولة والمجتمع، حيث يطالب المواطنون بمزيد من الشفافية والمشاركة السياسية. لكن في الدول الريعية، بسبب غياب الضرائب، لا يشعر المواطنون بأنهم يساهمون في تمويل الدولة، مما يؤدي إلى ضعف الضغوط الشعبية للمطالبة بالإصلاحات السياسية والاقتصادية.
تستخدم الحكومات الريعية العائدات النفطية أو غيرها من الموارد الطبيعية لشراء الولاءات السياسية عبر تقديم الإعانات الاجتماعية، وزيادة الرواتب في القطاع العام، أو تمويل الأجهزة الأمنية لقمع المعارضة. وهذا يجعلها أكثر قدرة على الاحتفاظ بالسلطة دون الحاجة إلى تلبية مطالب الديمقراطية أو الإصلاحات .
بما أن الإيرادات لا تأتي من الضرائب بل من مصدر ريعي غير مرتبط بإنتاج المواطنين، فإن الحكومات في الدول الريعية تميل إلى توزيع العائدات بطريقة غير شفافة، ما يفتح المجال أمام انتشار الفساد والمحسوبية، حيث يتم منح العقود والمشاريع الكبرى بناءً على الولاء السياسي بدلاً من الكفاءة الاقتصادية .
بدلًا من توجيه العائدات نحو الاستثمار في مشاريع تنموية وبنية تحتية مستدامة، تُستخدم الموارد المالية غالبًا في تمويل الأجهزة الأمنية لضمان استقرار الأنظمة الحاكمة، كما حدث في بعض الدول الغنية بالنفط التي شهدت قمعًا سياسيًا واسعًا ضد المعارضين.
يؤدي نمط الإنتاج الريعي إلى اقتصاد غير مستدام يعتمد على أسعار الموارد الطبيعية، مما يعرض الدول لمخاطر مالية كبيرة عند انخفاض الأسعار. كما أنه يضعف الإنتاجية، يرسخ الفساد، ويقلل من المساءلة السياسية، مما يجعل الإصلاحات الاقتصادية والسياسية أكثر تعقيدًا. لذا، فإن الحل يكمن في تبني سياسات تهدف إلى تنويع الاقتصاد، تعزيز الشفافية، والاستثمار في التنمية البشرية لضمان مستقبل اقتصادي وسياسي مستقر.
كانت من بين النماذج الأخرى التاريخية للاقتصاد الريعي إسبانيا في القرنين 16 و17، حيث أدى تدفق الفضة من المستعمرات الأمريكية، خاصة من منجم بوتوسي في بوليفيا، إلى زيادة الثروة المالية دون تطوير القطاعات الإنتاجية المحلية. ونتيجة لذلك، تقلص التوسع التجاري في البلاد، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي، وسجلت إسبانيا معدلات تضخم مرتفعة وانخفاضًا في القدرة التنافسية الصناعية، مما جعلها عرضة للأزمات الاقتصادية26.
الاقتصاد الريعي في العصر الحديث
في العصر الحديث، تُعَدّ دول الخليج العربي من أبرز الأمثلة على الاقتصادات الريعية، حيث تعتمد بشكل أساسي على إيرادات النفط والغاز لتمويل موازناتها العامة. وفقًا لصندوق النقد الدولي، السعودية تشكل إيراداتها من النفط حوالي 62% من إجمالي الإيرادات الحكومية. ومن المتوقع أن يتسع العجز المالي إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، نتيجة لانخفاض أسعار النفط وزيادة الإنفاق على المشاريع الكبرى27، وتشهد المملكة العربية السعودية حاليا إصلاحات اقتصادية ضخمة تعرف باسم رؤية 2030، والتي تهدف إلى إنهاء اعتمادها على النفط، وهو ما يتطلب مئات المليارات لتطوير قطاعات اقتصادية جديدة وتدفقات إيرادات أكثر استدامة28، ومن المتوقع أن يصل العجز المالي في الكويت إلى 5.1% من الناتج المحلي الإجمالي في السنة المالية 2024/2025، بسبب انخفاض إيرادات النفط.29
نيجيريا: النفط والفساد الاقتصادي
في نيجيريا، يمثل النفط حوالي 90% من عائدات التصدير و75% من الإيرادات الحكومية 30لكن سوء إدارة العائدات النفطية وانتشار الفساد تسببا في ضعف الاستثمار في البنية التحتية والتعليم، مما جعل الاقتصاد النيجيري غير قادر على تحقيق تنمية مستدامة. وفقًا لدراسة، فإن الاقتصاد النيجيري يعاني من "لعنة الموارد" حيث لم يترجم ارتفاع الإيرادات النفطية إلى تحسن في مستوى المعيشة أو البنية التحتية.
فنزويلا: التضخم والأزمة الاقتصادية
تُعَدّ فنزويلا أحد أبرز الأمثلة على الاقتصاد الريعي الذي أدى إلى أزمات حادة بسبب الاعتماد المفرط على النفط. فمع انهيار أسعار النفط بعد عام 2014، تفاقمت الأزمة الاقتصادية نتيجة سياسات الإنفاق غير المستدامة. وفقًا لـ البنك الدولي، انخفض الناتج المحلي الإجمالي لفنزويلا بنسبة 35% بين عامي 2014 و2018، وسجلت البلاد معدل تضخم بلغ 10,000,000% عام 2019، مما تسبب في نقص حاد في السلع الأساسية وهجرة جماعية للسكان31.
الاقتصاد الريعي غير النفطي: لبنان وتحويلات المغتربين
وبالإضافة إلى قطاع النفط، تظهر أشكال أخرى من الاقتصاد الريعي في بعض الدول التي تعتمد على تحويلات العاملين في الخارج كمصدر رئيسي للدخل. في لبنان، تُشكل التحويلات المالية من المغتربين حوالي 32% من الناتج المحلي الإجمالي32. هذا الاعتماد أدى إلى ضعف القطاعات الإنتاجية وزيادة الاعتماد على التدفقات المالية الخارجية دون تطوير اقتصادي حقيقي، مما جعل البلاد تعاني بشكل متكرر ومتزايد من من أثر الازمات المالية العالمية كان أبرزها الانهيار الاقتصادي في 2019-202133.
تعكس هذه النماذج كيف أن الاقتصادات الريعية، على الرغم من تحقيقها أرباحًا كبيرة على المدى القصير، قد تكون عائقًا أمام التنمية المستدامة. فالاعتماد المفرط على الإيرادات غير الإنتاجية يجعل الاقتصادات هشة أمام تقلبات الأسعار العالمية، ويؤدي إلى غياب التنويع الاقتصادي وسوء إدارة الموارد، مما يزيد من قابلية هذه الدول للأزمات الاقتصادية الحادة..
التكامل في الاقتصاد الرأسمالي العالمي:
على عكس النمط الآسيوي، يرتبط الاقتصاد الريعي بالأسواق العالمية، حيث تُباع الموارد الطبيعية في الأسواق الدولية، مما يُولّد دخلًا ضخمًا يُستخدم لتمويل الإنفاق الحكومي. ومع ذلك، فإن هذا النموذج غالبًا ما يُؤدي إلى "لعنة الموارد" (Resource Curse)، حيث يؤدي الاعتماد المفرط على العائدات الريعية إلى إضعاف القطاعات الإنتاجية المحلية، مما يُعيق التنوع الاقتصادي ويُفاقم الفجوة بين الطبقات.
العلاقة بين النمطين: أوجه التشابه والاختلاف
أوجه التشابه:
النمط الآسيوي للإنتاج | الاقتصاد الريعي | العنصر |
فائض الإنتاج الزراعي المُجمَع عبر الجباية | عائدات النفط أو الموارد الطبيعية المُباعة في الأسواق العالمية | مصدر الثروة |
تملك الأرض وتُسيطر على توزيع الموارد | تحتكر الموارد الطبيعية وتُسيطر على تدفق العائدات | دور الدولة |
سلطة مركزية استبدادية تُعزز بفضل احتكار الفائض | سلطة مركزية تُعزز باستقلالها المالي عن المواطنين | السلطة السياسية |
أسواق محدودة بسبب الاكتفاء الذاتي للفلاحين | دمج في الأسواق العالمية لكن مع اعتماد محدود على الإنتاج المحلي | الاعتماد على السوق |
ركود اقتصادي بسبب غياب الحوافز للإنتاجية | ضعف التنويع الاقتصادي بسبب الاعتماد على الريع | تأثير النظام الاقتصادي |
أوجه الاختلاف:
السياق التاريخي:
النمط الآسيوي كان جزءًا من حقبة ما قبل الرأسمالية.
الاقتصاد الريعي هو جزء من النظام الرأسمالي العالمي.
ملكية الموارد:
في النمط الآسيوي، كانت الدولة تمتلك الأرض وتتحكم في توزيعها.
في الاقتصاد الريعي، يُمكن أن تملك الدولة أو القطاع الخاص الموارد، ضمن إطار قانوني رأسمالي.
دور السوق:
الأسواق في النمط الآسيوي كانت محدودة نظرًا لطبيعة الإنتاج الزراعي والاكتفاء الذاتي.
في الاقتصاد الريعي، تُباع الموارد في الأسواق العالمية، لكن الدولة تظل أقل اعتمادًا على السوق المحلي.
العلاقات الطبقية في النمط الآسيوي للإنتاج
تميزت العلاقات الطبقية في النمط الآسيوي للإنتاج بسيطرة الدولة المطلقة على وسائل الإنتاج، وخاصة الأراضي الزراعية، حيث لم تكن الملكية الفردية للأرض شائعة، بل كانت الدولة هي المالك الرئيسي والمسؤول عن توزيع الموارد وتنظيم العمل الزراعي. أدى هذا النموذج إلى تكوين طبقات اجتماعية مختلفة عن تلك التي برزت في الأنظمة الإقطاعية أو الرأسمالية، حيث لم يكن هناك ملاك أراضٍ مستقلون يتحكمون في الفلاحين، بل كانت الدولة هي الوسيط الأساسي بين جميع الفئات الاجتماعية. انعكس هذا النمط في المجتمعات التي تبنته على طبيعة العلاقات بين الطبقات، حيث لم يتشكل صراع طبقي واضح بين الفئات كما هو الحال في الأنظمة الاقتصادية الأخرى، بل كان الاستقرار الاجتماعي يعتمد على قدرة الدولة على إدارة الاقتصاد وتوزيع الموارد بشكل عادل أو قمع أي اضطرابات ناتجة عن المظالم الاقتصادية. في هذا السياق، انقسم المجتمع إلى عدة طبقات رئيسية، لكل منها دور محدد في بنية النظام الاقتصادي والاجتماعي، حيث احتلت الدولة وحكامها قمة الهرم، يليهم البيروقراطيون الذين أشرفوا على تنفيذ سياسات الدولة، ثم الفلاحون الذين كانوا يعملون في الأرض دون امتلاكها، وأخيرًا الحرفيون والتجار الذين أسهموا في الأنشطة الاقتصادية تحت إشراف الدولة، مما جعل الاقتصاد موجّهًا من قبل السلطة المركزية بدلاً من أن يكون قائمًا على المنافسة أو الملكية الفردية.
العلاقات الطبقية في الاقتصاد الريعي
في الاقتصاد الريعي، تتحدد العلاقات الطبقية بناءً على التحكم في الموارد الطبيعية والدخل الناتج عن الريع بدلاً من الإنتاج المباشر، حيث تعتمد الدولة بشكل أساسي على عائدات الموارد الطبيعية مثل النفط أو الأراضي الزراعية الخصبة أو الضرائب المفروضة على الأنشطة التجارية دون الحاجة إلى تطوير قطاع إنتاجي قوي. يؤدي هذا النموذج الاقتصادي إلى تركز الثروة والسلطة في يد الدولة والنخب الحاكمة، مما يحدّ من دور الطبقات المنتجة مثل العمال والفلاحين، ويؤدي إلى تشكيل طبقات اجتماعية غير متكافئة.
تتمثل الطبقات الرئيسية في هذا النمط في الطبقة الحاكمة، التي تستحوذ على عائدات الريع وتتحكم في توزيعها عبر شبكات النفوذ السياسي والإداري، مما يعزز من قدرتها على الهيمنة دون الحاجة إلى شرعية قائمة على الإنتاج أو المشاركة الاقتصادية. يليها طبقة البيروقراطية والوسطاء، الذين يتولون إدارة توزيع الريع عبر الوظائف الحكومية والمناصب الإدارية، مما يجعلهم يعتمدون على الدولة في الحفاظ على امتيازاتهم بدلاً من الاعتماد على مهارات إنتاجية أو استثمارية. أما الطبقات العاملة والفلاحون، فهم غالبًا في موقع التبعية، حيث يعتمدون على الدولة في توفير الوظائف أو الدعم المالي بدلاً من امتلاك وسائل الإنتاج أو القدرة على تحسين أوضاعهم الاقتصادية بشكل مستقل. وتبرز أيضًا طبقة رجال الأعمال المرتبطين بالدولة، الذين يحققون أرباحًا كبيرة عبر الامتيازات الحكومية والعقود الريعية، مما يخلق اقتصادًا غير تنافسي يعتمد على العلاقات السياسية أكثر من الابتكار والإنتاج:34.
يؤدي هذا النمط إلى غياب الصراع الطبقي التقليدي القائم على التنافس بين رأس المال والعمال، إذ يكون الصراع الأساسي بين الفئات المستفيدة من الريع والفئات المهمّشة التي لا تحصل على نصيب عادل من الثروة، مما قد يؤدي إلى اضطرابات اجتماعية عندما تفشل الدولة في توزيع الريع بشكل متوازن أو عند تراجع الإيرادات الريعية نتيجة لتغيرات اقتصادية خارجية مثل انخفاض أسعار الموارد الطبيعية. 35.
المقاربة والمقارنة الطبقية بين النمط الآسيوي والإنتاج الريعي
يتميز كل من النمط الآسيوي للإنتاج والاقتصاد الريعي ببنية اجتماعية تتحكم فيها الدولة بوسائل الإنتاج أو الموارد الأساسية، مما يؤثر على تكوين الطبقات والعلاقات بينها. ومع ذلك، فإن الآليات التي تشكّلت بها هذه العلاقات تختلف في كل نموذج، حيث يعتمد النمط الآسيوي على سيطرة الدولة على الأراضي والإنتاج الزراعي، بينما يقوم الاقتصاد الريعي على احتكار الموارد الطبيعية وتحقيق عوائد مالية دون الحاجة إلى إنتاج داخلي واسع.
النمط الآسيوي للإنتاج | الاقتصاد الريعي | العنصر |
الحكام والمسؤولون الحكوميون، يسيطرون على الأراضي والضرائب ويديرون الإنتاج الزراعي | النخب السياسية، تستحوذ على عائدات الموارد الطبيعية وتتحكم في توزيعها عبر شبكات النفوذ | الطبقة الحاكمة |
الموظفون الحكوميون الذين يشرفون على توزيع الأراضي وجمع الضرائب وتنظيم الإنتاج | الإداريون والبيروقراطيون الذين يديرون إيرادات الريع ويوزعون الامتيازات الاقتصادية | الطبقة الإدارية (البيروقراطية) |
الفلاحون والمزارعون، يعملون في الأرض دون امتلاكها ويعتمدون على الدولة مباشرة | العمال والفئات الدنيا، يعتمدون على الدولة في الوظائف والدعم المالي بدلاً من الإنتاج | الطبقة العاملة (المنتجون) |
يمارسون التجارة والصناعات اليدوية لكنهم يخضعون لرقابة الدولة ولا يمتلكون استقلالًا اقتصاديًا كبيرًا | رجال الأعمال يعتمدون على الامتيازات والعقود الحكومية أكثر من التنافس الإنتاجي الحقيقي | التجار والحرفيون |
صراع محدود بسبب اعتماد الفلاحين على الدولة بدلاً من الإقطاعيين، لكن تحدث اضطرابات عند زيادة الضرائب أو فساد الإدارة | غياب الصراع الطبقي التقليدي، لكنه يظهر عند تراجع الإيرادات الريعية وفشل الدولة في توزيع الثروة بعدالة | طبيعة الصراع الطبقي |
رغم أن كلا النموذجين يعتمد على دور الدولة المركزي في إدارة الاقتصاد، إلا أن الفرق الجوهري بينهما يكمن في مصدر الثروة وآلية التوزيع. ففي النمط الآسيوي، تستمد الدولة سلطتها من السيطرة المباشرة على الإنتاج الزراعي، حيث تعتمد على تنظيم العمل الزراعي وتحقيق الاستقرار الاقتصادي عبر توزيع الأراضي وجمع الضرائب، مما يؤدي إلى تكوين مجتمع طبقي قائم على التبعية المباشرة للدولة. في المقابل، يعتمد الاقتصاد الريعي على التحكم في الموارد الطبيعية وعوائدها المالية، مما يؤدي إلى نشوء طبقات غير منتجة لكنها تستفيد من الريع، بينما تبقى الطبقات العاملة والفئات الفقيرة في موقع التبعية بسبب عدم وجود قطاع إنتاجي قوي يسمح بالترقي الاجتماعي المستقل.
على مستوى الصراع الطبقي، كان النمط الآسيوي يتمتع بدرجة من الاستقرار بسبب مركزية السلطة وعدم وجود طبقة ملاك أراضٍ مستقلة تنافس الدولة، لكن التمردات الفلاحية كانت تحدث في فترات الأزمات الاقتصادية أو عند زيادة الضرائب. أما في الاقتصاد الريعي، فيظهر الصراع عند تراجع الإيرادات الريعية، حيث تتأثر الفئات التي تعتمد على الدولة في معيشتها، مما قد يؤدي إلى اضطرابات سياسية واقتصادية حادة نتيجة تآكل شرعية السلطة الحاكمة عند فشلها في توفير الريع لمختلف الفئات.
يظهر من هذه المقارنة أن كلا النمطين يعتمدان على دور الدولة في التحكم بالموارد الاقتصادية، لكن الفرق الأساسي يكمن في أن النمط الآسيوي يعتمد على الإنتاج الزراعي وإدارة الموارد البشرية، بينما يقوم الاقتصاد الريعي على الثروات الطبيعية وعائداتها المالية. ورغم أن كلا النموذجين يقللان من فرص الحراك الاجتماعي والاستقلال الاقتصادي للفئات المنتجة، إلا أن الاقتصاد الريعي أكثر هشاشة لأنه يعتمد على تقلبات الأسواق العالمية، مما يجعله أكثر عرضة للأزمات الحادة مقارنة بالنمط الآسيوي الذي يقوم على إنتاج داخلي أكثر استدامة.
دور الري في تشكيل العلاقات الطبقية في النمط الآسيوي للإنتاج
اعتمدت المناطق التي ساد فيها النمط الآسيوي للإنتاج، مثل الصين والهند وبلاد ما بين النهرين ومصر، على الزراعة المروية التي تتطلب أنظمة ري معقدة تشمل بناء السدود والخزانات وشبكات القنوات، بخلاف أوروبا، حيث اعتمد الإنتاج الزراعي بشكل أساسي على الأمطار. نظراً لأن مشاريع الري تحتاج إلى إمكانات كبيرة وتمويل ضخم، لم يكن بمقدور الإقطاعيين المحليين القيام بها، مما جعل الدولة تتولى هذه المهمة، مقابل فرض الضرائب على الفلاحين والمزارعين الذين يعتمدون على هذه الأنظمة في ري محاصيلهم 36.
أدى هذا الدور المركزي للدولة في تنظيم الموارد المائية إلى تضخم الجهاز الإداري للدولة، حيث لم تقتصر مهمتها على الجباية والسلطة السياسية، بل امتدت لتشمل إدارة الإنتاج الزراعي والإشراف على توزيع المياه وتنظيم العمل الزراعي. ونتيجة لذلك، أصبحت الدولة هي المحرك الأساسي للاقتصاد، مما أدى إلى غياب طبقة إقطاعية مستقلة كما هو الحال في أوروبا، حيث كان ملاك الأراضي هم المسيطرون على الفلاحين. في المقابل، ارتبط الفلاحون في النمط الآسيوي مباشرة بالدولة، التي كانت تحدد الضرائب والواجبات المفروضة عليهم مقابل منحهم حق استخدام الأراضي الزراعية والاستفادة من أنظمة الري.
ساهمت هذه البنية الاقتصادية في تعزيز الطابع المركزي للسلطة، حيث اعتمد المجتمع بأكمله على الدولة لضمان استمرار الإنتاج الزراعي، مما جعلها المنظم الرئيسي للعلاقات الاقتصادية والاجتماعية. ونتيجة لذلك، لم يكن هناك صراع طبقي تقليدي بين ملاك الأراضي والفلاحين كما في أوروبا، بل كانت العلاقة الأساسية بين الدولة كمحتكر للموارد والفلاحين كمنتجين يعتمدون على هذه الموارد، مما جعل السلطة المركزية أكثر قوة واستقرارًا لفترات طويلة، لكنها كانت أيضًا عرضة للاضطرابات الفلاحية عندما تزداد الأعباء الضريبية أو تسوء إدارة الموارد.37
تحليل تطور الاقتصاد الريعي كنموذج رأسمالي للنمط الآسيوي:
يُمكن فهم الاقتصاد الريعي باعتباره امتدادًا حديثًا للنمط الآسيوي، حيث أدى تطور الأسواق العالمية والتكنولوجيا إلى دمج آليات تحصيل الفائض غير المنتج ضمن إطار رأسمالي. ومع ذلك، فإن هذا النموذج يظل محكومًا بنفس الديناميات الأساسية التي تُعزز السلطة المركزية وتُضعف الحوافز للإنتاج المحلي، مما يُعيق التنمية الاقتصادية المستدامة.
حيث يُمثل الاقتصاد الريعي مرحلة متقدمة من تطور العلاقات الاقتصادية التي نشأت في ظل النمط الآسيوي، حيث تطورت أدوات الإنتاج وأصبحت أكثر تعقيدًا، لكن العلاقة الأساسية بين الدولة والمنتجين ظلت قائمة على استخراج الفائض بدلًا من تحفيز الإنتاج.
دراسات حالة: مقارنة الإمبراطورية العثمانية ودول الخليج المعاصرة
أ. الإمبراطورية العثمانية:
في الإمبراطورية العثمانية، اعتمدت الدولة على نظام "الالتزام" الذي سمح للنخب المحلية بتحصيل الضرائب من الفلاحين مقابل دفع مبلغ محدد للدولة. وعلى الرغم من تفاعل العثمانيين مع الأسواق الأوروبية، إلا أن تدفق الفضة الإسبانية الرخيصة أدى إلى تدمير الاقتصاد المحلي، مما أعاد فرض نظام الإقطاع وأعاق تطور علاقات إنتاج رأسمالية. يُظهر هذا المثال كيف يُمكن لنظام ريعي يعتمد على دخل خارجي أن يُعيق التنمية الاقتصادية ويُكرّس هيمنة النخب.
ب. دول الخليج المعاصرة:
في دول الخليج مثل السعودية والإمارات، يُمثل النفط المصدر الأساسي للدخل، ما يُتيح للحكومات تمويل نفسها دون الحاجة إلى فرض ضرائب مرتفعة على المواطنين. وعلى الرغم من محاولات تنويع الاقتصاد، إلا أن الاعتماد على النفط يظل العائق الأساسي أمام تحقيق اقتصاد منتج ومستدام. كما يُتيح الدخل النفطي للحكومات الحفاظ على أنظمة سياسية مركزية تُقلل من الحاجة إلى مشاركة شعبية في صنع القرار، مما يُعيد إنتاج أنماط الاستبداد الاقتصادي والسياسي التي ميزت النمط الآسيوي للإنتاج.
الخاتمة
يُظهر التحليل المقارن بين الاقتصاد الريعي والنمط الآسيوي للإنتاج أن كليهما يعتمدان على مركزية الدولة في تحصيل الفائض الاقتصادي، ولكن ضمن سياقات تاريخية مختلفة. ففي حين استند النمط الآسيوي إلى الزراعة المروية وتنظيم الري لفرض سيطرة الدولة على الإنتاج، يعتمد الاقتصاد الريعي الحديث على استغلال الموارد الطبيعية لتحقيق دخل مرتفع دون الحاجة إلى تطوير القطاعات الإنتاجية الأخرى. ومع ذل1ك، فإن كلا النموذجين يتشابهان في تأثيرهما على البنية الطبقية والممارسات السياسية، حيث يؤديان إلى نشوء أنظمة سلطوية تكرّس الفجوة بين النخب الحاكمة والطبقات المنتجة.
من جهة أخرى، فإن تحليل العلاقة بين الاقتصاد الريعي والرأسمالية الحديثة يكشف عن تناقض جوهري: فرغم أن الاقتصاد الريعي يعمل ضمن إطار الأسواق العالمية ويستفيد من تدفقات رأس المال العالمية، إلا أنه في جوهره يحدّ من ديناميكيات النمو المستدام ويُضعف الابتكار والإنتاج المحلي. فالدول التي تعتمد على الريع تجد نفسها في مأزق اقتصادي وسياسي عند تذبذب أسعار الموارد، ما يجعلها أكثر عرضة للأزمات المالية والاجتماعية.
لذلك، فإن معالجة تحديات الاقتصاد الريعي تتطلب استراتيجيات طويلة الأمد تهدف إلى تنويع مصادر الدخل، وتعزيز دور القطاع الخاص، وتحقيق إصلاحات سياسية تضمن مشاركة أوسع للمجتمع في عملية صنع القرار الاقتصادي. فتجارب دول مثل النرويج وماليزيا تُظهر أن النجاح في التحول من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد متنوع لا يتحقق فقط عبر الإدارة الجيدة للموارد، بل يستلزم أيضًا استثمارات في التعليم، والبحث العلمي، والبنية التحتية، وتطوير القطاعات الإنتاجية المحلية.
في النهاية، يمكن القول إن الاقتصاد الريعي، رغم حداثته الظاهرية، يحمل سمات هيكلية تشبه أنماط الإنتاج القديمة التي سبقت الرأسمالية. وإذا لم يتم تبني إصلاحات جذرية، فإنه قد يستمر في إعادة إنتاج الأنماط ذاتها من الاستبداد الاقتصادي والاجتماعي، مما يجعل التحول الاقتصادي الحقيقي تحديًا ملحًا في ظل العولمة الرأسمالية المتسارعة.
Marx, K. (1859). A Contribution to the Critique of Political Economy. Progress Publishers. (p. 109-110).
Marx, K., & Engels, F. (1977). Selected Works. Progress Publishers. (p. 329).
Marx, K., & Engels, F. (1845). The German Ideology. Progress Publishers. (p. 36-37).
Marx, K. (1867). Das Kapital: Critique of Political Economy, Vol. 1. Penguin Classics. (p. 178-180).
Morgan, L. H. (1877). Ancient Society. Holt & Company. (p. 39).
Finley, M. I. (1980). Ancient Slavery and Modern Ideology. Viking Press. (p. 56).
Bloch, M. (1961). Feudal Society. University of Chicago Press. (p. 132).
Marx, K. (1867). Das Kapital: Critique of Political Economy, Vol. 1. Penguin Classics. (p. 302).
Lenin, V. I. (1917). The State and Revolution. Progress Publishers. (p. 48).
Marx, K. (1859). A Contribution to the Critique of Political Economy. Progress Publishers. p. 109
Marx, K. (1867). Capital: Volume 1. Penguin Classics. Vol. 1, p. 334
Godelier, M. (1977). Perspectives in Marxist Anthropology. Cambridge University Press. p. 98
Hobsbawm, E. (1964). Pre-Capitalist Economic Formations. Lawrence & Wishart. p. 72
Wittfogel, K. A. (1957). Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power. Yale University Press. pp. 85-92
Anderson, P. (1974). Lineages of the Absolutist State. Verso. pp. 201-215
Marx, K. (1859). A Contribution to the Critique of Political Economy. Progress Publishers. pp. 51-54
Wittfogel, K. A. (1957). Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power. Yale University Press. pp. 150-156
Wittfogel, K. A. (1957). Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power. Yale University Press. pp. 210-215
Mahdavy, H. (1970). The Patterns and Problems of Economic Development in Rentier States: The Case of Iran. In M. A. Cook (Ed.), Studies in Economic History of the Middle East. Oxford University Press pp. 428-467.
Beblawi, H., & Luciani, G. (1987). The Rentier State. Croom Helm. pp 49-71
Beblawi, H., & Luciani, G. (1987). The Rentier State. Croom Helm. p. 23
Karl, T. L. (1997). The Paradox of Plenty: Oil Booms and Petro-States. University of California Press. p. 67
Ross, M. (2012). The Oil Curse: How Petroleum Wealth Shapes the Development of Nations. Princeton University Press. p. 201
Corden, W. M., & Neary, J. P. (1982). "Booming Sector and De-Industrialization in a Small Open Economy," The Economic Journal, 92(368), 825-848
Karl, T. L. (1997). The Paradox of Plenty: Oil Booms and Petro-States. University of California Press. p. 113
Hamilton, E. J. (1982). The Decline of Spain: A Historical Perspective. Economic History Review, Vol. 35(2), pp. 243-257
Reuters. (2025, April 8). How the oil price plunge complicates Saudi Arabia's economic agenda. Retrieved from https://www.reuters.com/markets/commodities/how-oil-price-plunge-complicates-saudi-arabias-economic-agenda-2025-04-08/
https://www.reuters.com/world/middle-east/saudi-arabia-expects-2024-deficit-widen-3-gdp-2024-09-30/?utm_source=chatgpt.com
International Monetary Fund. (2024, October 10). Kuwait: Staff Concluding Statement of the 2024 Article IV Mission. Retrieved from https://www.imf.org/en/News/Articles/2024/10/10/mcs-101024-kuwait-staff-concluding-statement-of-the-2024-aiv-mission
World Bank (2020). Nigeria Economic Report. World Bank Reports, p. 34
World Bank (2019). Venezuela Economic Update. World Bank Reports, p. 17.
World Bank (2021). Lebanon's Economic Challenges and Remittances Dependency. World Bank Reports, p. 29
Chaaban, J. (2019). The Lebanese Economy and the Dependency on Remittances. American University of Beirut, p. 46.
Mahdavy, H. (1970). "The Patterns and Problems of Economic Development in Rentier States: The Case of Iran." In M. A. Cook (Ed.), Studies in the Economic History of the Middle East, Oxford University Press. p. 440
Beblawi, H., & Luciani, G. (1987). The Rentier State. Croom Helm. p. 52
Wittfogel, K. A. (1957). Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power. Yale University Press. p. 43
Wittfogel, K. A. (1957). Oriental Despotism: A Comparative Study of Total Power. Yale University Press. p. 87