المؤسس والرئيس التنفيذي للمركز الأوروبي لدراسات الشرق الأوسط
تُعد قضية المرأة واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا في السياقين الاجتماعي والسياسي، حيث تمثل مسألة المساواة بين الجنسين تحديًا مستمرًا للمجتمعات الحديثة. ويتناول هذا البحث الجذور الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية لعدم المساواة بين المرأة والرجل، كما يستعرض التحديات التي تواجه الحركات النسوية في مسعاها لتحقيق العدالة الاجتماعية
تحليل ودراسة البنية الهيكلية التي تعيق تقدم المرأة، تساهم بشكل كبير في تقديم إطار نقدي لفهم القضايا النسوية في المنطقة العربية، مع التركيز على أهمية التحرر الفكري والاجتماعي لتحقيق مساواة حقيقية.
اذ لا تزال قضية المرأة تشكل أحد المحاور الأساسية التي تعكس صورة المجتمعات البشرية ودرجة تطورها. فمنذ عقود طويلة، كانت حقوق المرأة جزءًا من الحوارات العالمية حول العدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان. ورغم النجاحات التي تحققت في بعض الدول على صعيد تعزيز حقوق المرأة والمساواة بين الجنسين، إلا أن الكثير من التحديات لا تزال قائمة، لا سيما في المجتمعات العربية. حيث تتداخل هذه القضية مع عوامل عدة، مثل التأثيرات الدينية والثقافية والبنية الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يجعلها واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا وأهمية .
وفي هذا الإطار سنتناول الجذور الهيكلية للتمييز الجندري في العالم العربي وذلك من خلال تحليل شامل يعتمد على أحدث الدراسات والنظريات الأكاديمية. كما سنستعرض الحركات النسوية كفاعل رئيسي في النضال من أجل العدالة الجندرية، والتي تتناول أثر التحولات الديمقراطية على مكانة المرأة في المجتمعات العربية. إضافة إلى الأبعاد الثقافية والدينية والاقتصادية التي تشكل جزءًا كبيرًا من العقبات التي تواجه تحقيق المساواة بين الجنسين، لتقديم رؤية تفصيلية لكيفية تجاوز هذه العقبات.
الإطار النظري الموسع:
القضية النسوية ليست مجرد مسألة حقوقية، بل هي جزء من نضال أوسع لتحرير المجتمعات من أشكال الظلم المختلفة. كما لا يعد تحرير المرأة هدفًا قائمًا بحد ذاته، بل هو جزء لا يتجزأ من تحقيق مجتمع متحرر وديمقراطي، يضمن العدالة والمساواة للجميع.
لقد شهدت الدراسات النسوية كمجال أكاديمي تطورًا كبيرًا منذ ظهورها في منتصف القرن العشرين. في البداية، ركزت هذه الدراسات على تحليل دور النساء في المجتمع والتمييز الذي تواجهه النساء، لكنها تطورت لتشمل أبعادًا أوسع تتعلق بالهياكل الثقافية والسياسية التي تنتج هذا التمييز وتعيد إنتاجه. واحدة من أبرز المفكرات في هذا المجال هي "جوديث بتلر"، التي قدمت رؤية جديدة لمفهوم الجندر، حيث اعتبرته بناءًا اجتماعيًا وليس محددًا بيولوجيًا. يُظهر هذا التحليل كيف أن الأدوار الجندرية ليست مجرد ممارسات فردية بل هي نتاج أنظمة قوة وهيمنة مترسخة في المجتمعات1.
أما في السياق العربي، فإن النسوية تواجه تحديات خاصة تتعلق بتأثير الدين والثقافة البطريركية على قضايا المرأة. في هذا السياق، يُعد مفهوم "التقاطع" (Intersectionality) الذي طورته كيمبرلي كرينشو أداة مهمة لفهم كيفية تفاعل العوامل الاجتماعية مثل العرق والجندر والطبقة لتشكيل أشكال متعددة من التمييز. في العالم العربي، يمكن ملاحظة ذلك بوضوح في التفاوت بين النساء في المناطق الريفية مقارنة بالمدن والحواضر، من جهة وجود قيود اجتماعية واقتصادية أكثر تعقيدًا.
التحديات أمام الحركات النسوية:
تواجه الحركات النسوية في المنطقة العربية تحديات كبيرة، تنبع من طبيعة البنية الاجتماعية والثقافية والسياسية، فالبنية الثقافية والدينية تشكل أحد العوائق الرئيسية التي تواجه الحركات النسوية في العالم العربي. في العديد من الحالات، يتم استخدام النصوص الدينية لتبرير ممارسات اجتماعية تعزز التمييز الجندري، مثل تقييد حقوق المرأة في العمل أو التعليم. ورغم ذلك، فإن هناك محاولات جادة لإعادة قراءة النصوص الدينية من منظور يعزز قيم العدالة والمساواة.2 تعد تونس نموذجًا بارزًا في هذا السياق، حيث قامت بإصلاح قوانين الأحوال الشخصية لتتماشى مع مبادئ حقوق الإنسان، مثل منح المرأة حقوقًا متساوية في الطلاق وحضانة الأطفال.
من ناحية أخرى، يمثل التمكين الاقتصادي تحديًا كبيرًا في المجتمعات العربية. تشير الدراسات إلى أن النساء يعانين من قيود قانونية واجتماعية تمنعهن من الوصول إلى فرص اقتصادية متكافئة. فعلى سبيل المثال، تتطلب العديد من القوانين في المنطقة العربية موافقة الزوج أو الأب قبل أن تتمكن المرأة من بدء مشروع اقتصادي أو السفر للعمل. علاوة على ذلك، فإن النساء غالبًا ما يتم حصرهن في وظائف تقليدية ذات دخل محدود، مثل التعليم أو الرعاية الصحية، في حين تُستبعد من القطاعات التكنولوجية والصناعية الأكثر تأثيرًا.3 في حين أن التمكين الاقتصادي يُعتبر خطوة نحو استقلالية المرأة، إلا أنه غالبًا ما يكون شكليًا أو هامشيًا.
ولعل التحدي الأكبر يكمن في إعادة تعريف دور المرأة في عملية الإنتاج الوطني، بحيث تكون مساهمتها حقيقية ومؤثرة، وليس مجرد وسيلة لتعزيز الأعمال الهامشية. وهناك تحدٍ آخر يواجه الحركات النسوية هو النظرة السلبية التي تُصور تحرر المرأة كتهديد للأعراف الاجتماعية التقليدية. إذ ينظر في عدة مجتمعات إلى الحركات النسوية كحركات غربية تسعى إلى تفكيك الأسرة وتدمير القيم التقليدية وحرية المرأة دعوة للانحلال الاخلاقي، نتيجة لربط التحرر بالابتذال الجنسي. هذه النظرة تُظهر تحديًا فكريًا للحركات النسوية، حيث تحتاج إلى إعادة صياغة مفهوم التحرر بشكل يبرز إنسانية المرأة ومسؤوليتها هذه التصورات الخاطئة تعيق الحركات النسوية عن تحقيق أهدافها وتفرض عليها العمل ضمن سياقات اجتماعية معقدة.
القضية النسوية والتحولات الديمقراطية:
تحرير المرأة لا يمكن أن يُفصل عن السياقات الأوسع للتحولات الديمقراطية. فالمجتمعات التي تسعى لتكريس مبادئ الحرية والعدالة لا يمكنها تجاهل قضايا المرأة. تحرير المرأة يعني تحرير المجتمع من القيود الجندرية التي تحد من قدرته على تحقيق المساواة التامة.
لذا تُعتبر التحولات الديمقراطية فرصة مهمة لدعم قضايا المرأة وتعزيز حقوقها، فالديمقراطية ليست مجرد نظام سياسي يضمن الحقوق، بل هي إطار ثقافي وقيمي يُمكن من خلاله تعزيز العدالة الاجتماعية. في العالم العربي، لعبت الحركات النسوية دورًا محوريًا في تعزيز القيم الديمقراطية4، مثلما حدث في تونس التي تُعد نموذجًا رائدًا في هذا المجال. التحولات السياسية بعد الثورة التونسية مهدت الطريق لإقرار قوانين تدعم حقوق المرأة، مثل قانون مناهضة العنف ضد المرأة الذي صدر عام 2017.5 فتغيير المنظومة القانونية والقيمية للمجتمع أمر أساسي لتحقيق الديمقراطية. ومن هذا المنطلق، تشكل الحركات النسوية جزءًا لا يتجزأ من أي مشروع تحرري يهدف إلى بناء مجتمع متوازن، حيث تُحترم كرامة الجميع بغض النظر عن جنسهم. فالأولوية "للحس الإنساني الفطري"، يجب ان تتحرر المرأة من أنوثتها، أي أنها لا تنظر للعالم من خلال أنوثتها، وإنما كانسان واع ومسؤول، وبالتالي لا تكون عبدة ومملوكة لمفاتنها الأنثوية وذلك باستخدام المرأة جسدها لتحقيق أي أهدافها.
لذا فأي حركة تسعى لإحداث تحولات ديمقراطية جوهرية يجب أن يكون للحركة النسوية الواعية دور فيها كما أن أي حركة نسوية لن تحقق أهدافها إن كانت بمعزل عن القوى التحررية الأخرى في المجتمع.
تجارب دولية مثل جنوب إفريقيا وكوريا الجنوبية أظهرت أن الحركات النسوية كانت دائمًا جزءًا من النضال العام ضد الاستبداد. في هذه الدول، لم تُعتبر قضايا المرأة قضية منفصلة بل جزءًا لا يتجزأ من مشروع العدالة الاجتماعية والديمقراطية.
الدين والمقدس كأداة للهيمنة:
في كثير من المجتمعات العربية، يشكل الدين والمقدس مكونًا رئيسيًا من الوعي الاجتماعي. هذا الأمر يؤدي إلى توظيف الدين كأداة لإدامة النظام الاجتماعي الحالي، مما يعيق تقدمه وتحرره. فالدين في حد ذاته لا يمثل عقبة أمام حقوق المرأة، لكن المشكلة تكمن في استخدامه كأداة لتبرير الهيمنة الذكورية. في العديد من المجتمعات العربية، يتم تأويل النصوص الدينية بشكل يعزز السلطة الذكورية ويُقيد حقوق المرأة. النسوية الإسلامية، وهي تيار فكري ظهر في العقود الأخيرة، تسعى إلى تفكيك هذه الأطر من خلال تقديم قراءات بديلة للنصوص الدينية. الباحثة آمنة ودود تُعتبر واحدة من أبرز الأصوات في هذا المجال، حيث تدعو إلى إعادة تفسير النصوص الدينية بما يتماشى مع قيم المساواة والعدالة.6 فالنضال النسوي لا يُوجه بالضرورة ضد الدين كعقيدة، في مجتمعات مازال الدين يشكل مكون أساسي لبنيته الثقافية والروحية، بل ضد استخدامه كأداة للهيمنة الاجتماعية. التركيز هنا يجب أن يكون على خلق قيم اجتماعية أكثر إنسانية وشمولية، تعزز من قيمة المساواة والكرامة الإنسانية.
الأخلاق وقضية المرأة:
تعزز الأنظمة الثقافية التقليدية النظرة الدونية للمرأة، مما يعوق تحقيق المساواة. في العديد من المجتمعات، يتم استخدام الدين كأداة لإدامة التمييز، حيث تُفرض أدوار جندرية صارمة تجعل المرأة أقل مكانة من الرجل. فالأخلاق كمنظومة قيمية ليست ثابتة، بل تتغير مع تطور المجتمعات. في هذا السياق، تعيد الحركات النسوية تعريف الأخلاق بعيدًا عن فكرة الوصاية إلى تعزيز المسؤولية الفردية والمجتمعية. بدلاً من أن تُعامل المرأة ككيان يحتاج إلى حماية، تدعو النسوية إلى النظر إليها كفرد مستقل قادر على اتخاذ قراراته. هذا التحول في المفاهيم الأخلاقية ضروري لتحقيق المساواة الجندرية وتعزيز مكانة المرأة في المجتمع.
فاغلب الذين يقفون ضد تحرر المرأة ومساواتها بالرجل يجدون ان تحرر المرأة يؤدي للانحلال الأخلاقي وهذا يعود بالأساس لسببين: الأول لأن البعض من دعاة حرية المرأة حصر تحررها بالجانب الجنسي وأصبحت هذه الدعوة للحرية مبتذلة وتصب في خانة القوى الرجعية أكثر مما هي تخدم قضايا المرأة وتحقيق حريتها ومساواتها، فحصر التحرر بالجنس والابتذال الجنسي يسيء للمرأة كإنسان واعٍ ومسؤول، فمن يرى ان المرأة وعاء لإشباع الرغبات الجنسية للرجل، من جهة، ومن يمارس الابتذال الجنسي، من جهة اخرى، كليهما ينطلقان من نفس المنطلقات الفكرية وان اختلفا ظاهريا.
فالابتذال الجنسي هو الإفراط بتداول مفاتن المرأة والممارسة الجنسية، فلا يجد بالمرأة غير ذلك أو أنه يرى تلك المفاتن الأكثر أهمية، وهو احتقار للمرأة ولإنسانيتها الكاملة والتي لا تختلف عن التعامل معها كجارية وبالتالي فكلا الفريقان يتعاملان مع المرأة كسلعة جنسية ان كانت بثمن عند الفريق الأول او مجانية عند الفريق الثاني.
أما السبب الثاني فيعود لفهمنا لموضوع الأخلاق، وهل هي قيم ثابتة أم متغيرة. فالأخلاق هي معيارنا لتحديد الصواب من الخطأ والذي يعتمد على عدة مصادر، مثل الدين والتربية والعادات والتعلم، لذا فالمنطلقات الفكرية التي تتعامل مع المرأة ككائن قاصر يؤدي بالنتيجة للحكم على أنها غير قادرة على تحديد الصواب من الخطأ بشكل حر.
فالاستبداد لا يقوم على فراغ فكري، وإنما يقوم بالأساس على ان الآخر غير قادر على معرفة مصالحه أو حماية نفسه، لذا فتسلب حريته لأنه يسيء استخدامها، لذا فان حرية المرأة تعني لدى الفكر الاستبدادي الانحلال الأخلاقي لأنها غير قادرة على إصدار حكم أخلاقي صائب وهذا هو بالأساس المنطلق الفكري للاستبداد واضطهاد المرأة على حد سواء.
التمكين الاقتصادي كجزء من التحرر الشامل:
التمكين الاقتصادي ليس مجرد وسيلة لتحقيق الاستقلال المالي للمرأة، بل هو جزء من عملية تحرر شامل تهدف إلى تغيير بنية المجتمع. لتحقيق ذلك، يجب التركيز على سياسات تعليمية واقتصادية تُعزز من مشاركة المرأة في القطاعات غير التقليدية. فالتمكين الاقتصادي للمرأة يمكن أن يكون خطوة أولى نحو استقلاليتها، لكنه لا يُعد كافيًا لتحقيق التحرر الشامل. التركيز يجب أن يكون على إعادة تعريف دور المرأة في المجتمع، ليس فقط كعنصر منتج، بل كفاعل اجتماعي وسياسي يساهم في صنع القرار. فعملية الإنتاج الوطني هي المقياس الحقيقي لتمكين المرأة اقتصاديًا. يجب أن تكون مساهمة المرأة في الاقتصاد ذات مغزى وتأثير، وليس مجرد أدوار ثانوية تُبقيها في موقع هامشي.
على سبيل المثال، يجب توفير برامج تدريبية تُركز على مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة، إلى جانب تقديم حوافز اقتصادية تشجع النساء على دخول سوق العمل. علاوة على ذلك، تشير دراسة "المنتدى الاقتصادي العالمي" حول الفجوة الجندرية (2023) إلى أن الفجوة في مشاركة القوى العاملة بين الجنسين في المنطقة العربية هي من بين الأعلى عالميًا 7 لذا فإن إصلاح القوانين التي تحد من فرص المرأة الاقتصادية يُعد خطوة أساسية لتحقيق المساواة.
الخاتمة
القضية النسوية ليست مجرد قضية حقوقية بل هي مشروع تحرري شامل يسعى إلى تحرير الإنسان من كافة أشكال الظلم. لتحقيق ذلك، يجب أن تكون هناك جهود متكاملة تشمل إصلاح القوانين، تعزيز التعليم، وإطلاق حملات توعوية تُغير المفاهيم التقليدية عن أدوار المرأة. كما يجب تعزيز التعاون بين الدول العربية لتبادل الخبرات وتطوير سياسات مشتركة تُحقق تقدمًا فعليًا في قضايا المرأة.
Butler, J. (1990). Gender Trouble: Feminism and the Subversion of Identity.
السعداوي، نوال. (2001). المرأة والدين والأخلاق.
World Bank. (2023). Women, Business and the Law 2023.
Hassim, S. (2006). Women’s Organizations and Democracy in South Africa: Contesting Authority.
Charrad, M. M. (2001). States and Women’s Rights: The Making of Postcolonial Tunisia, Algeria, and Morocco.
Wadud, A. (2006). Inside the Gender Jihad: Women’s Reform in Islam.
World Economic Forum. (2023). Global Gender Gap Report.