التفلسف والإيديولوجيا

لقد واجهت نتائج كوارث القرن العشرين، تحديا للثقة بالنسق الفكرية. وهو ما جعل الالتزام الفلسفي يتطلب التبرير، لقد كانت حركة ما بعد الحداثة تجلياً عملياً رافضاً للإيديولوجيات ولاي نسق للأفكار، فقدأثار هيجل حول نفسه في سنوات ما بعد الحرب العالمية أهم المؤاخذات والتساؤلات. فمن ألكسندر كوجيف إلى بول ريكور وميشيل فوكو،”[1] وذلك باعتباره مؤسّس الأنساق الفكرية للفلسفة المعاصرة وما نتج عنها من فلسفات القرن العشرين.

ومن المفارقات المهمة في فهم علاقة التفلسف بالأيديولوجيا هو ذلك التعارض التكويني بينهما، ليصبح من الجلي تتبع هذا التعارض في مرحلة ما بعد الإيديولوجيا التي كانت مقترنة بتغييرات سياسية عميقة، بعد سقوط جدار برلين باعتباره رمزا معبرا عن الحاجز الإيدلوجي، والذي أصبح “يُعتقد” بأنه لم يعد له وجود.

الإيديولوجيا

تدل الإيديولوجيا على الاعتقاد بمنظومة فكرية شاملة في تفسير المجتمع والعالم[2] وهي كمجموعة مُعتقدات وأفكار تشكل نظرتنا للعالم. والتي نتمسك بها بشكل كبير، حيث يمكن ان نرى من خلالها كل شيء وكل شخص. فهي تتشكل على شكل منظومة أفكار فلسفية او دينية او سياسية او اجتماعية، ولذلك فهي شمولية من جهة، لأنها تتناول مختلف جوانب الحياة، و هي متناسقة من جهة اخرى، لاستنادها على منطلقات فكرية ومقولات ومواقف مترابطة مع بعضها بعض، وفق منهج فكري يكون على الأغلب واحداً، وليس من الضروري التصريح بهذا الموقف الفكري، وهذا التناسق لا يعني عدم تغيرها المستمر أو تطورها، فالتطور والتغير يشملان جميع جوانب الحياة وتجلياتها، لكنها تتطور وفق نسقها الخاص كمنظومة فكرية وقيمية متكاملة تمتلك تصوراً وتحيط نفسها بالأجوبة الضرورية على الأسئلة الحيوية المطروحة على اقل تقدير.

هذا النسق الفكري للإيديولوجيا ليس نقيضاً للفلسفة بأي حال من الاحوال، فالفلسفة لا تتخذ موقفا مضادا للأيديولوجيا، وانما هي بحد ذاتها تعد شكلا من اشكال الإيديولوجيا، باعتبارها بنى معرفية شاملة ومتناسقة، وهنا نحن بصدد توصيف الفلسفة كمذاهب فلسفية اخذت شكلها النهائي من النضج والوضوح.

لهذا النضج والوضوح الفلسفي معطياتهما فقد حُسمت الأسئلة الأساسية والإجابات عنها، حتى أصبح بالإمكان التعامل مع الفلسفة كمنظومة معرفية متكاملة وليس كفعل فلسفي حر، فالفعل الفلسفي هو التفكير الفلسفي الحر المتأمل، المثير للأسئلة بلا حدود، والباحث عن الأجوبة باستمرار، في مرحلة ما قبل الوضوح والنضج الفلسفيين.

إنّ اليقين المذهبي، يعد نشاطا عقليا ثوريا، من منظور رفضه للبنى المعرفية القائمة وخروجه عنها، من هنا يبرز الاختلاف بالكينونة بين التفلسف، من جهة والفلسفة، من جهة اخرى.

التفلسف

التفلسف هو ذروة النشاط العقلي التجريدي، فالتفلسف او التفكير الفلسفي هو التفكير بجوهر الموجودات وعلتها والبحث عن فهم العلاقات الكلية التي تحكم الوجود والغائية النهائية له، ويمتاز بقدرته على طرح الأسئلة الوجودية الكبرى والتي يجتاز بها كل الحدود والمحرمات المعرفية، إذ تشكل الإجابة عليها بناء نسق معرفي جديد، يكون قادرا على بناء تصور عن العالم.

ولا بد لهذا التفكير ان يكون متحرر “نظرياً” من القناعات والتصورات المسبقة، وهو تحرر افتراضي لان العقل البشري هو نتاج الخبرة المعرفية المتراكمة، ولا يمكن له التخلص كلياً من تراكمات المعرفة السابقة.

لكن التفكير الفلسفي بسعيه المستمر إلى التحرر من كل الاحكام والتصورات المسبقة فهو يعيد دوماً للعقل مكانته، كونه مًنتج فاعل للمعرفة  لا مجرد متلق لها،  و هذا الفعل “الفلسفي” هو الذي يساهم في بناء التصورات والنسق الفلسفي عن الوجود، وهذا النسق الفلسفي يشكل منظومة فلسفية جديدة تضع إجابات عما تطرحها المرحلة الإنسانية ثقافياً وحضارياً من تحديات يصوغها التفلسف على شكل إشكاليات و تساؤلات فلسفية، ويضع ذلك ضمن منطق لحركة العالم وموقف منه، وتقع المسؤولية الفلسفية على المتفلسف والتي هي ذات وجهين: وجه اول هو الالتزام بالسعي للوصول إلى إجابات وبناء نسق فلسفي يفسر العالم، وكل ما هو خارج عن ذلك هو مجرد عبث فكري لا قيمة له،  ووجه ثان يرتبط بالمسؤولية  الفلسفية التي هي مسؤولية الخروج المعرفي عن الأنساق الفلسفية والمعرفية السائدة ، حيث “تقع المسؤولية على المتفلسف، (….) والتي تعبر عن قدرة قد تصل به لا  إلى خرق استثنائي لبعض القواعد و  إنما إلى درجة قلب نموذج التفكير السائد برمته وذلك ما يسمى بالثورة الابستمولوجية.[3]

يشكل التفلسف في كل مرحلة منظومة معرفية جديدة، هي الفلسفة والتي تزداد يقينا باستمرار لتشكل شكلا جديداً من اشكال الإيديولوجيا. 

التفلسف والفلسفة

يكمن الفرق بين التفلسف والفلسفة بالأساس في السياق المعرفي، فالتفلسف، كما أشرنا، هو عملية التفكير وإثارة للأسئلة المعرفية الكبرى والبحث عن الأجوبة لها ووضعها في سياق معرفي متكامل جديد، سواء باعتباره إضافة الى الأنساق المعرفية القائمة او بإحداث تغيير جذري بالمنظومة المعرفية السائدة، ليوفر تصورا معرفيا مختلفا لفهم الكون والمجتمع والإنسان، هذا التصور مختلف لكنه ليس أكثر حداثة أو صوابا او عقلانية مما سبقه. لان الظروف التاريخية كفيلة بتحديد مسار ذلك التفكير تقدما او نكوصاً، لذا لا يمكننا، عقليا، ان نجزم ان كل ما هو حديث أكثر صوابا او أكثر عقلانية.

هذا الفعل هو التفلسف او التفكير الفلسفي، أما ما انتجه التفكير الفلسفي من منظومة معرفية فهو الفلسفة، فالفلسفة منظومة فكرية اما التفلسف فهو عملية انتاج تلك المنظومة.

ولا يمكن تصور فلسفة متكاملة لم تكن هي بالأساس انتاجا لعملية طويلة ومعقدة من التفلسف الحر، إنّ التفلسف يشكّل مضمون الفلسفة الذي ساهم في بنائها وتكاملها، والتي ستتنكر هي له لاحقاً، فنضج المنظومة الفلسفة وتكاملها ورصانة منهجها يشكل عائقاً دائماً امام استمرار ذلك الفعل الفلسفي ومحدداً لمجال تناوله للقضايا او مراجعته المستمرة للأسئلة والاجابات. هذا التناقض القائم بين مضمون الفلسفة وشكلها من جهة، وحسم نتائجه من جهة أخرى، هو الذي سيحدد مصير الفلسفة لاحقاً.

فكلما كان الفعل الفلسفي او التفلسف حراً، ساهم أكثر في انتاج المنظومة الفلسفية ونضجها، فهو الذي يحدد مضمونها ويزيد من نضجها، في ذلك الوقت وكلما زادت نضجاً تحد من فعله ووجوده، وتقيد حركته، حتى انها تقصيه احياناً او تهرطقه، في أحيان اخرى. فلا يمكن للتفلسف الا البقاء في مدار اثارة الأسئلة والبحث المستمر عن الإجابات عنها ورصد المزيد من العلاقات التي تحدد حركة العالم، أيا كان شكل تلك العلاقات وطبيعتها، فالتفلسف ليس فعلا عبثيا، او هلوسة، وانما هو بحث عن إجابات، تتراكم لتشكل منظومة فكرية نؤمن بصوابها. لكن هذه المنظومة الفكرية ستقف لاحقاً امام التفكير الفلسفي وهنا يتشكل الصراع بين النقيضين هذا الصراع اللانهائي بين التفلسف والفلسفة اللذين لا يمكن التخلي عن أحدهما لحساب الاخر.

نقد العقل

وكلما زادت الفلسفة يقيناً ونضجاً، أي يقيناً بما توصلت إليه من إجابات اثبتتها حججها العقلية والمنطقية والتي أصبحت بحكم النهائية والبديهية؛ نضجاً باكتفائها بما هو جديد، فلا إضافات جديدة إلى نسقها المعرفي، فما سيحدث لاحقا لا يعدو ان يكون سوى مظاهر جديدة متكررة للظواهر نفسها، كفيله ان تفسرها نفس العلاقات والاجابات التي تم التوصل إليها سابقاً، عند هذا اليقين والنضج تتخذ الفلسفة سمتها النهائية كإيديولوجيا وبامتياز.

حيث تصل الفلسفة إلى نقطة النهاية بشمولها ونسقها المعرفي مما يؤدي يشكل حتمي إلى  تضييقها على حدود التفلسف والتفكير الحر خارج هذا النسق او خارج الصندوق، انها ترى بالتفلسف المنفلت خارج نسقها المعرفي خطراً وهرطقة، فهو ذلك المارق الذي يعيد اثارة اسئلة مختلفة ويبحث عن إجابات جديدة، انه ذلك الشك الذي يسعى  إلى تحطيم اليقين، لا سيما إذا ادعى الانتماء  إلى نسقها المعرفي نفسه، وبهذا بالصراع بين الفلسفة والتفلسف، تتجه الفلسفة تدريجيا  إلى النزعة اللاعقلانية، لكنها ليست لاعقلانية رافضه كلياً للعقل، وانما هي لاعقلانية إيديولوجية، انها تقبل ما انتجه عقلها لكنها بالوقت نفسه ترفض ما سينتجه عقل الاخر  إذ “ان من مميزات المنهج الفلسفي انه ينزع الى الشمولية  و الاستعانة بمختلف ألوان المعرفة لا على اساس انها علوم اخرى. ولكن كجزء من الابداع العقلى. وحينما تتقوقع الفلسفة وتنغلق على ماهيتها يحكم على العقل بالتخلف والسقوط.”[4]

ان شمولية الفلسفة ونسقها تتعارضان بالأساس مع التفلسف الحر “وبعبارة أخرى، ليس بإمكاننا إنتاج تصور شمولي لا يظلم الفرد. فالمثالية الهيجيلية التي كانت تدعي إغلاق كل واقع داخل نسق، تشهد في الحقيقة على نوع من “الهوس”، هوس تدمير الآخر، باستعادته لـ”المثيل” (même)، وبإخضاعه لأطر المفهوم، إنه هوس يهدم كل اختلاف عن طريق إعلاء ما هو كوني بأي ثمن.”[5]

 

الخاتمة

فالتفلسف والأيديولوجيا على طرفي نقيض، حيث تقف الفلسفة بينهما بحالة صيرورة دائمة، لكن تبقى الأيديولوجيا هي المصير الحتمي للفلسفة، هذا المصير الذي لا يمكن الإفلات منه. لا سيما إذا ما اخذت الفلسفة مظهراً سياسياً واجتماعياً يضيف على ما لها من يقين، مصالح وقوى تتبنى مقولاتها وتدافع عنها، فلا تحيط نفسها بسور من الإجابات والقناعات الفكرية النهائية فقط، وانما بخندق من البنادق.

 

[1] أفكار الفلسفة المعاصرة / جان ميشيل بسنيي ترجمة حسن لشهب

https://www.laghoo.com/2013/06/%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D8%B3%D9%86%D9%8A/

[2] أحمد سعيفان (2004). قاموس المصطلحات السياسية والدستورية والدولية: عربي – إنكليزي – فرنسي (بالعربية والإنجليزية والفرنسية) (ط. 1). بيروت: مكتبة لبنان ناشرون. ص. 64.

[3]  محمد عبد النور، مقومات فعل التفلسف.. ما هي؟ موقع الجزيرة

https://www.aletihad.ae/article/53019/2019/%D8%B1%D9%88%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81-%D8%B9%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A8%D9%88%D8%B5%D9%81%D9%87%D8%A7-%D9%81%D8%B9%D9%84%D8%A7%D9%8B-%D8%A5%D8%A8%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D9%8A%D8%A7%D9%8B%D9%81%D8%B9%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81-%D9%85%D8%A7-%D9%87%D9%8A

[4]  أزمة الفلسفة في الفكر الأنساني المعاصر الفلسفة…….. لماذ ا…؟ الدكتور عبد الرزاق قسوم معهد الفلسفة جامعة الجزائر

[5]  أفكار الفلسفة المعاصرة / جان ميشيل بسنيي ترجمة حسن لشهب

https://www.laghoo.com/2013/06/%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%A7%D8%B5%D8%B1%D8%A9-%D8%AC%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%8A%D8%B4%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D8%B3%D9%86%D9%8A/

Advertisements

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *